من فشل النموذج الأكاديمي إلى ولادة رؤية لغوية جديدة

أزمة ثنائية الفصحى والعامية: تشخيص خاطئ يقود إلى طريق مسدود

ARABICBLOG

محمد العواد

8/7/20251 min read

a lone tree is silhouetted against the setting sun
a lone tree is silhouetted against the setting sun

منذ عقود والنموذج الأكاديمي العربي يُصر على النظر إلى اللهجات المحكية باعتبارها انحرافًا عن العربية الفصحى، لا بوصفها تجليات حية ومتجددة للغة الأم. هذه الرؤية ليست فقط قاصرة، بل خطيرة. فهي تقوم على فصلٍ تعسفي بين "المثالي" و"الواقعي"، بين "النقي" و"الملوّث"، بين "العلمي" و"الشعبي"، وتُسهم بشكل مباشر في إضعاف العلاقة العضوية بين الناس ولغتهم.

النتيجة؟ خطاب نخبوي مُنفصل عن الحياة، ومجتمعات تُفقد ثقتها بلغتها، وأكاديميون يعلنون تراجع العربية... دون أن يعترفوا أن أدواتهم الفكرية هي التي فشلت، لا اللغة.

المشكلة الحقيقية: الانفصال المرضي بين النظرية والواقع

الخلل ليس في اللغة، بل في النموذج العقلي الذي يحكم الفكر الأكاديمي العربي. نموذج يرى أن الواقع يجب أن يُطابق النظرية 100%، وإلا عُدّ فاسدًا ومنحرفًا. هذا التفكير الثنائي ("إما كل شيء أو لا شيء") هو السرطان الثقافي الحقيقي الذي قاد كثيرًا من المؤسسات إلى الفشل، والإحباط، والانفصام.

تحت هذا الضغط، تحوّلت الجامعات إلى مؤسسات تُدرّس العلوم بلغات أجنبية، بحجّة أن "العربية لا تصلح"، بينما الحقيقة أنهم عاجزون عن تطوير أدوات لغوية حقيقية تنبع من اللغة ذاتها. لقد قابلت عشرات الأكاديميين من هذا الطراز، وكلهم - بلا استثناء - كانوا أسرى هذا المنطق الكارثي الذي يتجلى في طريقة غير فعالة في حل المشاكل مع غياب تام للمنطق المرحليّ الذي ينشأ من الصبر الاستراتيجي القادر على تغيير الواقع.

العامية هي "الذراع" الحركي الإبداعي للغة العربية كَكُل.

اللغة العربية، بكل أشكالها، تملك قدرة مذهلة على التعبير عن أدق تفاصيل الحياة، من الفصحى الكلاسيكية إلى اللهجات المحلية. وهذه اللهجات ليست "شوائب" أو "عقبات"، بل امتدادات حيوية للفصحى. العاميات ليست أعداء العربية، بل تجليات لها عبر الناطقين بها في كل ضروب الحياة.

خذ اللهجة الفلسطينية مثالًا: بتراكيبها الغنية، وتنوعها الصوتي، ومرونتها التعبيرية، تثبت أنها قادرة على حمل أي معنى حديث ومعقد دون أن تُفقد المتحدث إحساسه بالهوية أو الانتماء وبقدرة فائقة على نقل روح العربية المتجذرة منذ آلاف السنوات إلى اللحظة الراهنة بكل إبداع ورشاقة.

الرؤية البديلة: نحو نموذج لغوي حيّ ومتكامل

لحل هذه الأزمة البنيوية، نحن بحاجة إلى رؤية جديدة للعربية لا تفصل بين "اللغة" و"الحياة"، ولا تقف عند حدود التنظير الجاف، بل تبني مشروعًا فعّالًا لإحياء اللغة في وجدان الناس وعقولهم.

من أجل تحقيق هذا التصور، نحتاج إلى الخطوات التالية:

  1. إعادة دراسة القواعد الأساسية للعربية
    يجب تحرير النحو من قوالبه القديمة الجامدة، والتركيز على الوظائف الحقيقية للأبنية اللغوية، وربطها بالاستخدام والفهم لا بالحفظ والإعراب. ويجب أن نعتبر أن القرآن الكريم هو المصدر المفهومي الرئيسي لنا دون الوقوع في فخ الإسقاط التاريخي أو التفسير الجامد. القرآن لا يُستمد منه النحو فحسب، بل يُستمد منه المنطق الداخلي للغة، و"روحها المفهومية".

  2. دراسة اللهجات المحكية بدقة علمية
    لا يمكن أن نفهم العربية كلغة حية دون دراسة اللهجات المحكية بوصفها أنساقًا لغوية حقيقية، لا "أخطاء شعبية". يجب أن تُخضع للهجات العربية لنفس مستوى التحليل الذي يُمنح للفصحى: البنية، السياق، التغير، المشترك الجذري، التطوّر الصوتي.

  3. إعادة هيكلة اللهجات في الوعي العام
    عبر التعليم التدريجي في المدارس، يمكن تنقية اللهجات من سوء الاستخدام، وتدريب الأجيال على استعمالها الصحيح بحيث تتجلى العربية الفصحى بها بوصفها امتدادا طبيعيا لها.

  4. نحتاج إلى مؤسسات ثقافية تنشر الوعي باللهجات، وتشرح بوضوح كيف تتصل بالله الفصحى في الجذور والبنية، وكيف تتكامل معها في الدور بل نحتاج إلى إدراجها الجاد والفوري في مناهجنا التعليمية ونحتاج إلى وجود حوار مفتوح حول هذا الموضوع.

النتائج: ماذا سنربح؟

عندما نُدرّس العربية كنظام شامل متعدد الأبعاد ، نجد أن الطالب:

أسرع في اكتساب المفردات لأنه يربط بين أشكال لغوية متعددة.

ابتكار مصطلحات صحيحة: يستطيع ترجمة حتى أعقد المصطلحات بشكل سليم وابداع مصطلحات جديدة.

أفضل في الفهم السماعي لأنه معتاد على تنوع اللفظ والمعنى.

أقوى في التعبير لأنه يملك خيارات لغوية أوسع.

أعمق في الفهم الثقافي لأنه لا يدرس اللغة كجثة، بل يعيشها ككائن حي.

مبدع متذوق للأدب والشعر بل ويراها امتدادا لحياته وكيانه لا كحاويات منفصلة عن الواقع.


العامية المحكية يجب أن تكون انعكاسًا للعربية الفصحى لا عدوًّا لها